فصل: المسألة الأولى: وجوه الاستدلال على كمال رسالة النبي صلى الله عليه وسلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}.
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة».
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {وإن كنتم في ريب} الآية. قال: هذا قول الله لمن شك من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وإن كنتم في ريب} قال: في شك {مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} قال: من مثل هذا القرآن حقًا وصدقًا، لا باطل فيه ولا كذب.
وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فأتوا بسورة من مثله} قال: مثل القرآن {وادعوا شهداءكم من دون الله} قال: ناس يشهدون لكم إذا أتيتم بها أنه مثله.
وأخرج ابن جرير وابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وادعوا شهداءكم} قال: أعوانكم على ما أنتم عليه {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} فقد بين لكم الحق.
وأخرج عبد بن حميد وابن جريج عن قتادة {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} يقول: لن تقدروا على ذلك ولن تطيقوه.
أما قوله تعالى: {فاتقوا النار}.
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن مسعود قال: إذا مر أحدكم في الصلاة بذكر النار فليستعذ بالله من النار. وإذا مر أحدكم بذكر الجنة فليسأل الله الجنة.
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن ماجة عن أبي ليلى قال: «صليت إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم فمر بآية فقال: أعوذ بالله من النار، ويل لأهل النار».
وأخرج ابن أبي شيبة عن النعمان بن بشير قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «أنذركم النار، أنذركم النار حتى سقط أحد عطفي ردائه على منكبيه».
وأما قوله تعالى: {التي وقودها الناس والحجارة}.
أخرج عبد بن حميد من طريق طلحة عن مجاهد. أنه كان يقرأ كل شيء من القرآن {وقودها} برفع الواو الأولى إلا التي في {والسماء ذات البروج} {النار ذات الوقود} [البروج: 5] بنصب الواو.
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والفريابي وهناد بن السري في كتاب الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: إن الحجارة التي ذكرها الله في القرآن في قوله: {وقودها الناس والحجارة} حجارة من كبريت خلقها الله عنده كيف شاء.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: هي حجارة في النار من كبريت أسود يعذبون به مع النار.
وأخرج ابن جرير عن عمرو بن ميمون قال: هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السموات والأرض، في السماء الدنيا فأعدها للكافرين.
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الإِيمان عن أنس قال تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وقودها الناس والحجارة} فقال: «أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة لا يطفأ لهبها».
وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوقدت النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة».
وأخرج أحمد ومالك والبخاري والبيهقي في البعث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم» فقالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية؟ قال: «فإنها قضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها».
وأخرج مالك في الموطأ والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: «أترونها حمراء مثل ناركم هذه التي توقدون؟ إنها لأشد سوادًا من القار».
وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، لكل جزء منها حرها».
وأخرج ابن ماجة والحاكم وصححه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، لولا أنها أطفئت بالماء مرتين ما انتفعتم منها بشيء، وإنها لتدعو الله أن لا يعيدها فيها».
وأخرج البيهقي في البعث عن ابن مسعود قال: إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من تلك النار، ولولا أنها ضربت في البحر مرتين ما انتفعتم منها بشيء.
وأخرج البيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، ضربت بماء البحر مرتين، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد».
وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: إن ناركم هذه تعوّذ من نار جهنم.
وأما قوله تعالى: {أعدت للكافرين}.
أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أعدت للكافرين} قال: أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر. اهـ.

.فوائد بلاغية:

.قال في صفوة التفاسير:

البلاغة:
1- ذكر الربوبية اعبدوا ربكم مع إضافته إلى المخاطبين للتفخيم والتعظيم لذات الرب الجليل.
2- الإضافة على عبدنا للتشريف والتكريم، وهذا أشرف وصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- التعجيز فأتوا بسورة خرج الأمر عن صيغته إلى معنى التعجيز، وتنكير السورة لإرادة العموم والشمول، كأنه قال: أى سورة من القرآن.
4- المقابلة اللطيفة جعل لكم الأرض فراشا، والسماء بناء فقد قابل بين الأرض والسماء، والفراش والبناء، وهذا من المحسنات البديعية.
5- الجملة الاعتراضية ولن تفعلوا لبيان التحدي في الماضي والمستقبل، وبيان العجز التام في جميع العصور والأزمان.
6- الإيجاز البديع بذكر الكناية فاتقوا النار أي فإن عجزتم فخافوا نار جهنم بتصديقكم بالقرآن، لئلا تعذبوا بنار جهنم. اهـ.

.قال في إشارات الإعجاز:

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}.

.مقدمة في تحقيق النبوة:

اعلم! أنه كما اثبتت الآية السابقة أول المقاصد الأساسية القرآنية وهو التوحيد؛ كذلك تثبت هذه الآية ثانيَ المقاصد الأربعة وهو اثبات نبوّة محمّد عليه الصلاة والسلام بأكمل معجزاته الذي هو التحدّي باعجاز القرآن الكريم. ولقد فصلنا دلائل نبوّته في كتاب آخر فلنلخص بعضها هنا في ست مسائل:

.المسألة الأولى: وجوه الاستدلال على كمال رسالة النبي صلى الله عليه وسلم:

اعلم! أن الاستقراء التام في أحوال الأنبياء مع الانتظام المطّرد المسمى بالقياس الخفيّ ينتج أن مدار نبوّة الأنبياء وأساسها وكيفية معاملاتهم مع أممهم- بشرط تجريد المسألة عن خصوصيات تأثير الزمان والمكان- يوجد بأكمل وجه في محمّد عليه الصلاة والسلام الذي هو استاذ البشر في سنِّ كمال البشر، فينتج بالطريق الأَوْلى وبالقياس الأَوْلَويّ أنه أيضًا رسول الله. فجميع الأنبياء بألسنة معجزاتهم كأنهم شاهدون على صدق محمّد عليه السلام الذي هو البرهان النيِّر على وجود الصانع ووحدته فتأمل.

.المسألة الثانية: الاستدلال بأحواله على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم:

اعلم! أن كل حال من احواله وكل حركة من حركاته عليه السلام- وأن لم يكن خارقًا- يلَوِّح بالمبدأ على صدقه وبالمنتهى على حقانيته. ألا ترى أنه عليه السلام كيف كان حاله في أمثال واقعة الغار التي انقطع- بحسب العادة- أمل الخلاص، يقول بكمال الوثوق والاطمئنان والجدية {لاتَحْزَنْ أن الله مَعَنَا}!. فكما أن ابتداءه بالحركة- بلا مبالاة لمعارض وبلا خوف وتردد مع كمال الاطمئنان- يدل على تمسكه بالصدق؛ كذلك تأسيسه بانتهاء حركاته- لقواعد هي الأساس لسعادة الدارين- واصابته للحق واتصاله بالحقيقة دليل على حقانيته، فهذا فردًا فردًا. وأما إذا نظرت إلى مجموع حركاته واحواله يتجلى لعينك برهانُ نبوّته كالبرق اللامع. فتبصّر!

.المسألة الثالثة: اتفاق الأزمان على تصديق نبوته:

اعلم! أن الزمان الماضي والحال- أي عصر السعادة- والاستقبال اتفقت على تصديق نبوّته كما أن ذاته دليل على نبوّته. ولنطالع هذه الصحف الأربع:
فأولًا: نتبرك بمطالعة ذاته عليه السلام. ولابد أوّلًا من تصوّر أربع نكت:
إحداها: أنه ليس الكحلُ كالتكحّل أي لا يصل الصنعيُ والتصنعيُ- ولو كانا على أكمل الوجوه- مرتبة الطبيعيّ والفطريّ ولا يقوم مقامه، بل فلتاتُ غلطاتِ هيئةِ حركةِ الصنعي تومئ بمزخرفيته.
والثانية: أن الاخلاق العالية إنما تتصل بأرض الحقيقة بالجدية، وأن إدامة حياتها وانتظام مجموعها إنما هي بالصدق. ولو ارتفع الصدق من بينها صارت كهشيم تذروه الرياح.
والثالثة: هي أنه كما يوجد الميل والجذب في الأمور المتناسبة، كذلك يوجد الدفع والتنافر في الأمور المتضادة.
والرابعة: هي أن للكلِّ حكمًا ليس لكلٍ كقوّة الحبل مع ضعف خيوطه.
وإذا تفطنت لهذه النكت فاعلم! أن آثار محمّد عليه الصلاة والسلام وسيره وتاريخ حياته تشهد- مع تسليم أعدائه- بانه لعلى خلق عظيم، وبانه قد اجتمع فيه الخصائل العالية كافة. ومن شأن امتزاج تلك الأخلاق توليد عزة للنفس وحيثية وشرف ووقار لاتساعد التنزل للسفاسف. فكما أن علوّ الملائكة لايساعد لاختلاط الشياطين بينهم؛ كذلك تلك الأخلاق العالية بجمعها لا تساعد أصلا لتداخل الحيلة والكذب بينها. ألا ترى أن الشخص المشتهر بالشجاعة فقط لا يتنزل للكذب إلا بعسر؟ فكيف بالمجموع؟ فثبت أن ذاته عليه السلام كالشمس دليل لنفسه.
وأيضًا إذا تأملت في حاله عليه السلام من الأربع إلى اربعين- مع أن من شأن الشبابية وتوقد الحرارة الغريزية أن تظهر ما يخفى وتلقي إلى الظاهر ما استتر في الطبيعة من الحيل- تراه عليه السلام قد تدرج في سنينه وعاشر بكمال استقامة ونهاية متانة وغاية عفة واطراد وانتظام. ما اومأ حالٌ من أحواله إلى حيلة، لاسيما في مقابلة المعاندين الأذكياء. وبينما تراه عليه السلام كذلك إذ تنظر إليه وهو على رأس اربعين سنة- الذي من شأنه جعل الحالات مَلَكة والعادات طبيعة ثابتة لا تخالف- قد تكشّف عليه السلام عن شخص خارق قد اوقع في العالم انقلابًا عظيمًا عجيبا. فما هو إلا من الله.

.المسألة الرابعة: قصص الأنبياء قبله دليل على نبوته صلوات الله عليهم أجمعين:

اعلم! أن صحيفة الماضي المشتملة على قَصَص الأنبياء المذكورة على لسانه عليه السلام في القرآن الكريم برهان على نبوّته بملاحظة أربع نكت.
إحداها: إن من يأخذ أساسات فنٍ ويعرف العقد الحياتية فيه ويحسن استعمالها في مواضعها ثم يبني مدّعاه عليها؛ يدل ذلك على مهارته وحذاقته في ذلك الفن.
النكتة الثانية: هي إنك أن كنت عارفا بطبيعة البشر لا ترى أحدًا يتجاسر وبلا تردد وبلا مبالاة بسهولة على مخالفةٍ وكذبٍ ولو صغيرًا.. في قوم ولو قليلين.. في دعوى ولو حقيرة.. بحيثية ولو ضعيفة. فكيف بمن له حيثية في غاية العظمة.. وفي دعوى في غاية الجلالة.. في قوم في غاية الكثرة.. في مقابلة عناد في غاية الشدة مع أنه أمي لم يقرأ.. يبحث عن أمور لا يستقل فيها العقل ويظهرها بكمال الجدية، ويعلنها على رؤوس الأشهاد. أفلا يدل هذا على صدقه وانه ليس منه بل من الله؟
الثالثة: هي أن كثيرًا من العلوم المتعارفة عند المدَنيين- بِتعليم العادات والأحوال وتلقين الوقوعات والأفعال- مجهولة نظريةٌ عند البدويين. فبناء علىه لابد لمن يحاكم ويتحرى حال البدويين- لاسيما في القرون الخالية- أن يفرض نفسه في تلك البادية.
الرابعة: هي أنه لو ناظر أمي علماء فن- ولو فن الصرف- ثم بيّن رأيه في مسائله مصدِّقًا في مظان الاتفاق، ومصحِّحًا في مطارح الاختلاف؛ افلا يدلك ذلك على تفوقه، وأن علمه وهبي؟
إذا عرفت هذه النكت: فاعلم! أن محمّدًا العربيّ عليه السلام مع اميّته قصّ علينا بلسان القرآن الكريم قصَصَ الاولين والانبياء قصةَ مَنْ حضر وشاهد، وبيّن أحوالهم وشرح أسرارهم على رؤوس العالم في دعوى عظيمة تجلب إليها دقة الأذكياء. وقد قص بلا مبالاة، وأخذ العقد الحياتية فيها واساساتها مقَدَّمة لمدّعاه، مصدِّقًا فيما اتفقت عليه الكتب السالفة، ومصحِّحا فيما اختلفت فيه. كأنه بالروح الجوّال المعكس للوحي الالهي طيّ الزمانَ والمكانَ، فتداخل في اعماق الماضي فبيّن كأنه مشاهد. فثبت أن حاله هذه دليل نبّوته وإحدى معجزاته. فمجموع دلائل نبوّة الأنبياء في حكم دليل معنوي له، وجميع معجزات الأنبياء في حكم معجزة معنوية له.